في الزمن الذي تشيّأ به معظمُ ما قد يعطي المعنى لحياة الإنسان، حتى يكاد المرء لا يبصر من الحياة إلّا أشياؤها ونشازها الماديّ المفرط ويكاد يصل إلى حافة اللاشيء للخلاص من توهان الأشياء، يحملنا الفن إلى مكان آخر من المعنى لندرك أنَّ هناك «أشياء لا تشترى». ونعود لنتصالح مع كلمة «الشيء» التي ألفناها محمّلة، بوعي و بغير وعي، بالإمتعاض. حين ترى الحب والأمل والطموح وأشياء كثيرة لا تُرى بل تُبصر لا تقال بل تُسمع وتحس وتعاش، تعرف معنى الحياة.
لست ضليعاً بنوع خاص من الفن أو الأدب ولا أملك أدوات النقد اللازمة لذلك، لكني سأتناوله هنا كمتلقٍ يحاول اعتصار معنى ما من نصٍ يتلقّاه. وبناءَ على أنَّ كلَّ ما نرى هو نص، وكلَّ نص يحمل خطاباً فكلّ ما سيرد هو رد فعل تأمليّ عن «حياة»، المسرحية التي عرضت طبيعة التحولات التي طرأت على الفلسطينيّ المقاوِم بالمعنى الخاص والإنسان الثائر بالمعنى العام/ الكونيّ. أول ما لفت الانتباه عندي هو اسم المسرحية، «حياة»، فيها يتداخل العام بالخاص، فتذكرت ذاك التعريف المدهش للأدب والذي هو أقرب للوصف منه للتعريف. فالأدب هو الشيء الحاضر الممتد في الزمن ماضيه ومستقبله، والممتد في المكان بكل اتجاهاته. هو ما يحتمل التطبيق في أيّ زمكان مع التبئير في جدليات الخاص. يحكي الأدب إذن في ذلك التعريف الوصفي الحياة بتفاصيلها وبهذا يلتقط الكوني الذي يتأتى بالضرورة من دقائق الخاص المشترك بين جميع الحيوات البشرية. ولعل كلّ ذلك قد أسعفني في محاولات التبرير لمقاربة المضمون لا الشكل، ولست على اضطلاع بما يكفي عن جدالات الشكل والمضمون لأخوض هذا النقاش البائس هنا.
ما أعرفه عن «حياة» أنَّها عملٌ جماعيٌّ تطوعيٌّ منذ لحظة التكوين حتى اللحظة الحالية. ففي زمن التشيّء هذا انتشرت ثقافة الفردانية بصورة مغرية تكاد لا تُقاوم، حيث أصبح كلُ شيء يحمل روحاً جماعية أو جمعيَّة يحيل التفكير إلى العدم والعبث والسخرية. وما أعادته «حياة» هو الحياة، فطرحت العمل الجماعيّ الطوعيّ قولاً وفعلاً، عرّت كلَّ أقنعة الإبداع التي لا تعمل إلّا على الفرديّ المطلق اللامنتمي الكاره للسرد العام الكونيّ متناسياً مبدأ التشابك بين الكونيّ والفرديّ. ذكّرتنا «حياة» بأنّه ما زال هناك حياة، هناك أمل حتى في أحلك اللحظات. نعم ما زال هناك سرديات كبرى تُروى وأساطير بطولة بتفاصيل لانهائية في زمن انتهاء التاريخ العام الجمعيّ وبداية زمن العبث والعدم واللاجدوى الفرديّة. في هذا الزمن فقد كلّ شيء معناه، ولن يردنا إلى المعنى إلّا الفنّ كما رأيت في «حياة».
تجربة التلقي:
في الفنِّ سحرٌ يسرق لبّ متعاطيه، وهذا ما يذكرني بأسطورة عوليس حين مرّ بالجزيرة التي تخطف من يستمع للموسيقى المنبعثة. هذا ما فعلته حياة، شخصية في المسرحية، حين بدأت تغني «يا زهرة في خيالي»، أغنية لفنان عربيّ ليس من هذا «الزمان». ما لفت انتباهي حين علمت بأنّ من غنّاها هو فريد الأطرش، هو كيفية الاشتباك والتداخل بين أشكال الفن، فسياق المسرحية كان يردني في كلّ لحظة شرود إلى قصيدة أمل دنقل «لا تصالح»، وعليه تشابكت كلُّ المعاني. ولعلّها مصادفة أو إسقاط شخصيّ رغائبيّ على واقع النص، لكنْ لدي قناعة شبه تامة بأنَّنا يجب أن نحاكم الفن بالفن وهذا ما قد يتبين لاحقاً.
أول ما تلقيته من حياة هو أنَّه ما زال هناك «أشياء لا تشترى»، هناك «قتيل نسي أن يموت»، هناك أمل إذن هناك حياة ل «سنبلة تملأ الوادي سنابل». الأمل تحفة اليائسين ما إن فقدناه فقدنا الحياة، كانت تقول لنا بمعنى مسرحي «لا تصالح» فالصلح «معاهدةَ بين ندّين». وتذكرنا، على عكس الشعر، بأن هناك ما يمنع من طاقة امتشاق الحسام، فرجاء (إحدى شخصيات المسرحية) الثورية «المتزمّتة» ما قبل المعاهدة أصبحت تخشى المواجهة بعد العدم الحاصل من أمومتها وسرقة دمّ الشهيد العاشق وكأننا نسينا بأنَّ الوطن هو الأم والأب والأخ والأخت والحبيبة، ونسينا تساؤل دنقل «كيف تصبح فارسها في الغرام؟». فناجي الذي يغريه المال والسلطة، لكن التزاوج والتعايش الحاصل بين هذين النقيضين ينجب حياة خالدة مدلّلة. فلهم من الأبناء حياة وخالد والطفلة المدلّلة، ولكل منهم معنى تنساق في خيالتنا. فحياة هي ابنة الموت كما في القصيدة التي ينشدونها على أنَّها وصية الشهيد قيس عبد المهدي «لعله موت يلد حياة». في تلك اللحظة قفزت كلمات دنقل إلى رأسي مباشرة، رغم انتزاعها من سياقها إلّا أنها تعبر عن تلك اللحظة:
«وغداً..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،
يوفد النار شاملةً،
يطلب الثأر،
يستوّلد الحق،
من أضلع المستحيل..»
نعم ينتزع الممكن في لحظة المستحيل، المعنى في لحظة اللامعنى والتوهان، وفي الموت الذي يلد الحياة. حياة التي ترتبط بالثائر منتصر (أحد شخصيات المسرحية)، الذي يشبه قيس ولعلّ ذلك يعني إعادة بعث الحياة بعد الموت. يعيد لناجي ورجاء حياتهم الثائرة، وإن كان في تفصيل لا يرقى لمعنى الفعل الثوريّ الجادّ والمنظّم، بعد تردّد الموت حين ساعدوه على الهرب. فعلى الرغم من ما يمثله ناجي لتشوهات الثائر الذي يصبح أداةً إستعماريَّة محليَّة تغريه السلطة والمال معلناً وفاة الثائر فيه، إلّا أنَّ لحظة التحوّل تلك تبعث رسالة تقول:
«لا تصالح،
ولو توجوك بتاج الإمارة
إن عرشك: سيف
وسيفك: زيف
إذا لم تزن –بذؤابته- لحظات الشرف
واستطبت-الترف»
ولعلها تذكره أيضاً بالتساؤل القائم أبداً: «كيف تخطو على جثة ابن أبيك؟» ما هذا إلا بعض من شيء، فـ»حياة» فيها الكثير من التفاصيل داخلها وخارجها وكلّ ما ورد ليس إلّا معنى مؤجل من إحدى معانيها. ولعلّ الوصية التي ردّدها معظم شخصيات المسرحية سحبتني إلى عالم دنقل المؤجّل أيضاً فحين يقول أحدهم «لن نمدح موتنا ولن نزدريه.. لكن سنمتطيه كما يمتطي الطفل نمراً لوطنٍ عرفناه ومن أجله سنحيا ونموت...» يحضر نداء دنقل «واغرس السيف في جبهة الصحراء إلى أن يجيب العدم». وأخيراً لعله موتٌ يلد حياة.